الاستنتاج المتوافق- خطر الأحكام السطحية وتأثيرها على العلاقات

المؤلف: سامي الدجوي11.23.2025
الاستنتاج المتوافق- خطر الأحكام السطحية وتأثيرها على العلاقات

تَخَيَّلْ معي أنْ يوجدَ شخصٌ يتمتعُ بفراسةٍ نافذةٍ، قادراً على الغَوْصِ في أعماقِ شخصياتِ الناسِ بمجردِ إمعانِ النظرِ في أفعالهم، ويمتلكُ القدرةَ على تحليلِ سلوكهم وتقييمِ ردودِ أفعالهم بدقةٍ متناهيةٍ، بناءً على تجربةٍ أو موقفٍ ما عايشوه. قد يتبادرُ إلى الذهنِ أنَّ هذا الشخصَ يمتلكُ قدراتٍ خارقةً، لأنهُ يُظهرُ براعةً فائقةً في استنتاجِ الصفاتِ الشخصيةِ للأفرادِ بسرعةٍ مذهلةٍ، ويُطلقُ الأحكامَ عليهم بجرأةٍ وثقةٍ، ليكتشفَ لاحقاً أنَّ استنتاجاتِه كانتْ خاطئةً وقراراتِه متسرعةً. في الواقعِ الملموسِ، نجدُ نماذجَ مشابهةً لهؤلاءِ الأفرادِ منتشرةً في مؤسساتِ العملِ المختلفةِ، وفي تفاصيلِ حياتِنا اليوميةِ، وقد خطَرَ ببالِكَ الآنَ بعضُ هذهِ الشخصياتِ، لأنكَ كُنتَ –وربما ما زلتَ– أحدَ ضحاياهم. هؤلاءِ الأفرادُ يطبقونَ ما يُعرفُ علمياً بمفهومِ "الاستنتاجِ المُتَوافِق"، فما هوَ هذا المفهومُ بالتحديد؟

يُعَرِّفُ علماءُ الإدارةِ وروادُ علمِ النفسِ التنظيمي "الاستنتاجَ المُتَوافِق" (Correspondent Inferences) بأنهُ أسلوبٌ يُستخدمُ لتمييزِ الخصائصِ الفرديةِ للآخرين، وفهمِ دوافعِ سلوكياتهم، وذلكَ بالاعتمادِ على التخميناتِ المنطقيةِ الناتجةِ عنْ تحليلِ تصرفاتهم في مواقفَ معينةٍ تعرضوا لها. بمعنى آخر، عندما يتصرفُ شخصٌ ما بطريقةٍ مخصوصةٍ في موقفٍ ما، يميلُ البعضُ إلى استنباطِ سماتِه الشخصيةِ واستكشافِ دوافِعه الخفيةِ، بلْ قدْ يتجاوزُ الأمرُ ذلكَ ليصلَ إلى افتراضِ وجودِ نيةٍ مبيتةٍ لديهِ. وإليكمْ مثالاً واقعياً حدثَ معي أثناءَ مسيرتي المهنيةِ، ففي أحدِ اجتماعاتِ العملِ الهامةِ التي جمعتني بزملائي الموظفين، حضرَ أحدُ الزملاءِ متأخراً في اللحظاتِ الأخيرةِ منْ الاجتماعِ. وبعدَ انتهاءِ الاجتماعِ وخروجِ الموظفينَ منْ القاعةِ، بادرَ ذلكَ الزميلُ بالاعتذارِ عنْ تأخرِهِ، وأسهبَ في شرحِ الأسبابِ والظروفِ الطارئةِ التي أخرتهُ. وفي اليومِ التالي، وصلني انتقادٌ لاذعٌ بحقِ هذا الموظفِ، بسببِ تأخرِهِ في تسليمِ بعضِ المستنداتِ المطلوبةِ في الموعدِ المحددِ، واستشهدَ الناقدُ بحادثةِ تأخرِهِ عنِ الاجتماعِ الأخيرِ كدليلٍ قاطعٍ على أنَّ هذا الموظفَ مُهملٌ وغيرُ ملتزمٍ بمواعيدِ العملِ، وأنهُ تعمدَ إظهارَ عدمِ الاحترامِ والتقديرِ لزملائهِ. هذا الاستنتاجُ السلبيُّ بُنيَ على حادثةٍ عابرةٍ، دونَ التروي والتأكدِ منْ الحقائقِ والظروفِ الحقيقيةِ التي أدتْ إلى تأخرِ ذلكَ الموظفِ عنْ حضورِ الاجتماعِ وعنْ تسليمِ الأوراقِ في الوقتِ المحددِ.

منْ خلالِ هذا المثالِ، نلاحظُ بوضوحٍ كيفَ استنبطَ بعضُ الموظفينَ سماتٍ شخصيةً سلبيةً للآخرينَ، وحكموا على نواياهم، بناءً على تصرفٍ معينٍ قاموا بهِ في موقفٍ محددٍ، وهذا بالضبطِ هوَ صلبُ مفهومِ الاستنتاجِ المُتَوافِقِ. تجدرُ الإشارةُ هنا إلى تفصيلةٍ لغويةٍ دقيقةٍ أودُّ أنْ أُلفتَ انتباهَ القارئِ إليها، وهيَ استخدامُ كلمةِ "تصرف" بدلاً منْ كلمةِ "سلوك"، فما هوَ الفرقُ الجوهريُّ بينَهُما؟ "التصرف" (Conduct) يُشيرُ إلى فعلٍ أو حركةٍ قامَ بها الشخصُ في موقفٍ معينٍ، وغالباً ما يكونُ عارضاً وغيرَ متكررٍ، مثل: تصرّفَ الموظفُ بطريقةٍ لبقةٍ ومهنيةٍ أثناءَ عرضِهِ التقديميِّ. أما "السلوك" (Behavior) فيعني نمطاً ثابتاً ومتكرراً منْ الأفعالِ والتصرفاتِ التي يمارسها الفردُ في مختلفِ المواقفِ والظروفِ، مثل: سلوكُ التعاونِ الدائمِ الذي يتحلى بهِ الموظفُ عندَ تعاملهِ معْ زملائهِ في العملِ، وأفرادِ عائلتهِ في المنزلِ، وجيرانهِ في الحيِّ. إضافةً إلى ذلكَ، فإنَّ "التصرفَ" يرتبطُ عادةً بموقفٍ محددٍ أو حدثٍ معينٍ، في حينِ أنَّ "السلوك" يمثلُ نمطاً عاماً وشاملاً على المدى الطويلِ. والأمرُ الأكثرُ أهميةً هنا هوَ أنَّ هذا النمطَ منَ الاستنتاجِ السطحيِّ يؤدي إلى الكثيرِ منَ الأخطاءِ الفادحةِ، مثلَ اتخاذِ قراراتٍ متسرعةٍ وغيرِ مدروسةٍ، والتأثيرِ السلبيِّ في العلاقاتِ الشخصيةِ والمهنيةِ بينَ الأفرادِ.

باختصارٍ وتلخيصٍ لما سبقَ، يجبُ علينا أنْ نعيَ تماماً خطورةَ التسرعِ في إطلاقِ الأحكامِ واستنتاجِ الصفاتِ الشخصيةِ للآخرينَ بناءً على تصرفاتٍ محدودةٍ وعابرةٍ، لأنَّ ذلكَ قدْ يؤدي إلى أخطاءِ جسيمةٍ في تقييمِ شخصياتِهم. ومنْ الضروريِّ أيضاً التمييزُ بدقةٍ بينَ التصرفاتِ الظرفيةِ والمحدودةِ والأنماطِ السلوكيةِ الثابتةِ والمستمرةِ عندَ محاولةِ فهمِ شخصيةِ الفردِ. أخيراً، لقدْ حانَ الوقتُ لنتجاوزَ التفكيرَ السطحيَّ والأحكامَ المُسبقةَ، وأنْ نتبنى ثقافةَ الفهمِ العميقِ والتحليلِ المُتأنيِّ لسلوكياتِ الآخرينَ. لِنُسْهِمْ معاً في بناءِ مجتمعٍ سعوديٍّ مُترابطٍ ومتراحمٍ، يسعى إلى الوحدةِ والتعاونِ بدلاً منَ الفرقةِ والانقسامِ، ويدعمُ ويشجعُ بدلاً منْ أنْ يُحبِطَ ويُثبطَ العزائمَ. فهذا يساعدُنا في تحقيقِ أهدافِ رؤيةِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ 2030، لتستمرَّ بلادُنا الغاليةُ نموذجاً يُحتذى بهِ في مجالِ الإدارةِ الرشيدةِ والتعاملِ الإنسانيِّ الحضاريِّ.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة